

بقلم/ رفعت رشاد
في تاريخ الزعامات، هناك شخصيات لا تحتاج إلى إعلان نياتها أو خوض معارك صاخبة من أجل مقعد أو منصب؛ يكفي أن تتوارى قليلًا، حتى تنفجر الجماهير بالهتاف وتتصاعد الدعوات لعودتها. من هؤلاء، يقف محمود الخطيب، أسطورة الكرة المصرية ورئيس النادي الأهلي الحالي، كأنموذج حيّ لـ “الزعيم الكاريزمي” الذي لا يُطلب منه الترشح بل يُدفَع دفعًا إلى ساحة المنافسة.
الخطيب ليس مجرد اسم ارتبط بالكرة والبطولات، بل أيقونة تتجاوز حدود المستطيل الأخضر لتصير رمزًا اجتماعيًا وثقافيًا. هدوؤه، رصانته، لغة جسده، قدرته على مخاطبة العاطفة والعقل معًا، كلها جعلته في موقع مختلف؛ حيث تتحول صورته من لاعب أسطوري إلى “زعيم نادٍ” لا ينافسه أحد في الهيبة. عندما أعلن عن اعتذاره عن الترشح لدورة جديدة لرئاسة النادي الأهلي ، مبررًا الأمر بنصائح الأطباء والمرض، بدا المشهد وكأنه إشارة الانسحاب . غير أن هذا الانسحاب ذاته فتح أبوابًا من الأسئلة: هل كان موقفًه نابعا بالفعل من ظرف صحي؟ أم مناورة محسوبة بذكاء ، تستنهض الجماهير وتثير فيهم الرغبة بالتمسك به أكثر؟ .
عرفت الجماهير لاعبا لا يبارى في سبعينات القرن الماضي . كان على رأس نجوم الفريق الذهبي الذي شكله المدرب هيديكوتي لاعب الكرة المجري ونجم فريقها الذهبي أيضا الذي كان من بينه اللاعب الأشهر بوشكاش . صنع هيديكوتي من لاعبي الأهلي فريقا يكاد لا يهزم . كانوا يفوزون أحيانا كثيرة بأهداف ستة على بعض الأندية . حقق هذا الفريق عدد مرات فوزا بالدوري والكأس ما جعل المسافة بينه وبين أقرب نادي بعيدة للغاية , فصار نادي القرن العشرين .
كنت من بين الجماهير التي عشقت الخطيب أو بيبو , اللاعب الذي امتلك موهبة تقترب من موهبة بيليه ومارادونا في طريقة اللعب . لم يكن يلعب بقدر ما كنا يعزف , وكانت الجماهير ترد على أصداء عزفه هتافات تشق عنان السماء . وبعدما عملت بالصحافة , اشتغلت في العديد من الصحف , كان من بينها مجلة لطيفة يرأس تحريرها الراحل الأستاذ وحيد غازي , وأشهد أنه كان على خلق واحترافية مهنية عالية , وقد رأس تحرير جريدة الأحرار . طلبت منه أن أجري حوارا مع بيبو , فوافق . قابلت بيبو وبعد المقابلة زاد تقديري له , فهو رجل مهذب ومتعاون في الرد على أسئلتي وخرج الحوار كما يتناسب مع المجلة في تلك الفترة .
في السياسة كما في الرياضة، كثيرًا ما نرى القادة يتمنّعون. يعلنون التراجع، فينهض الشعب بالضغط والمطالبة. فتتحول العودة إلى الساحة من طموح شخصي إلى “تكليف شعبي”. إنها ممارسة تجمع بين الكلاسيكية والمودرن تجعل من الاستحقاق الانتخابي مسرحًا للوجدان الجمعي. بعض الزعماء في التاريخ الحديث مارسوا التمنع حتى يشتد الضغط، وبعد نضج مسرح الأحداث يعود الزعيم انصياعا لإرادة الجماهير , هي ممارسة مشروعة ولا غبار عليها , بل تشير إلى مدى سيطرة المرشح على أدواته وثقته في حصد الأصوات بهذه الطريقة .
بدأت جماهير الأهلي بالفعل في مطالبة الخطيب بالترشح , تحركت روابط المشجعين لتنظيم حملة للمناداة به . لن يكون ترشحه قرار شخصي، بل استجابة لنداء جماهيري عارم . وبهذا، يدخل المعركة من موقع المنتصر قبل أن تبدأ، لأن الناس لا يرونه مرشحًا بين آخرين، بل قدرًا لا بديل عنه.
هل الخطيب تكتيكي بارع يدفع الأعضاء ويستميلهم ليكونوا جميعا حملته ؟ أم أنه وجد نفسه أمام مشهد أكبر من إرادته ، فاستجاب له؟ المؤكد أن كاريزما الخطيب تصنع له ما لا تصنعه البيانات الانتخابية ولا الحملات الدعائية .
اعتزل الأسطورة المستطيل الأخضر، وقد يتنحى يومًا عن رئاسة الأهلي، لكن ما لن ينفصل عنه أبدًا هو الهالة التي تحيطه ، الكاريزما التي تفرض نفسها ، والقدرة على جعل الجماهير ترى فيه “القائد” حتى وهو يتمنع . ذلك سر الخطيب، الذي لا يحتاج إلى أن يطلب الأصوات، بل الأصوات هي التي تطلبه .