

بقلم/ثروت محمد
أخيراً توقف القطار على رصيف محطة سوهاج بعد ثمانية ساعات من السفر والجلوس كثيراً مع حركة قليلة . وعلى مقعد من الحجر الجرانيت الأبيض الذى تعلوه طبقة مجلخة من اللون الأسود فوق الرصيف وضعت حقيبتي وأستريح واقفاً من عناء الجلوس ثمان ساعات قادماً من القاهرة.
حالة من الكسل أمسكت بأقدامى ولا أمتلك من العزم ما يجعلني أحمل حقيبتى الثقيلة وأخرج من المحطة لأستقل عربة أجرة «تاكسى» للوصول إلي مدينتى التي تبعد ١٢ كيلو متراً عن مدينة سوهاج.
فالقطار الذى أقلنى لا يقف بالمدن الصغيرة أو القرى.
وبينما انا أطالع المحطة يميناً ويساراً أزعجنى صوتاً ينبعث من جرار القطار.
فسألت من هم بجوارى عن هذا القطار المزعج فعلمت منهم أنه قطار الركاب المتجه إلي مدينة نجع حمادي.
إنه هو المطلوب بالنسبة لى هو بالفعل قطار العمال والطلاب الذى يقف بمدينتى.
لحظات معدودة وجدت قدماى تحملانى بداخله أجلس على مقعد فى هذا الصندوق الصفيح المسمي عربة قطار..
وضعت حقيبتي بجواري ..وجلست التفت يميناً ويساراً.. أطالع الركاب وأتفحص وجوه الجالسين..
ففى أيام الشتاء الساعة السادسة لا تزال العتمة لم تنقشع تماماً والشمس لم تشرق بعد والصمت والهدوء القاتل من الركاب داخل العربة يخيف.
أفراد لايتجاوز عددهم بضعة أشخاص هم كل ركاب العربة ومثلهم فى كل عربة من القطار .
عربات القطار مظلمة ليس بها مصباح مضئ ، ونوافذها الخشبية أو الزجاجية مهشمة و محطمة بفعل قوة إطلاق الأحجار من الأطفال الذين يسكنون فى بيوت بجوار شريط السكة الحديد .
ناهيك عن الضجيج المفزع والعادم الكثيف المنبعث من مدخنة جرار القطار.
ثلث ساعة زمن الوصول لمدينتي بهذا القطار لكن هذه الدقائق عادت بى إلى أقل من نصف قرن ببضعة سنوات ، عادت بى ذكرياتى وأنا طالب بالجامعة وبالتحديد مع قطار الركاب أو قطار العمال وأية ذكريات وأية حكايات من الزمن الجميل.
كنت أستقل نفس هذا القطار ولمدة اربعة سنوات منذ عام ١٩٧٨ وحى عام ١٩٨٢ من مدينتى المنشأة وفى السادسة والنصف صباحاً متجهاً إلى الجامعة بسوهاج وأعود فى نفس قطار الركاب فى الثالثة والنصف عصراً.
جرت مياه كثيرة فى النهر خلال هذه العقود الأربعة ونيف.
فمرفق السكة الحديد مر بنجاحات كبيرة وانتكاسات مثيرة، تطورت المحطات وأرقام القطارات عدلت وتوقيتات القيام والوصول إلى حد ما انضبطت .
لكن يبقي لى مع «القشاش» حكايات وذكريات فتلك السنوات جزء من عمرى صحيح تغيرت أشياء كثيرة
فلم يعد هذا هو قطار الركاب الذى أعرفه لسنوات ولا هذه الناس التى أمامى فى هذا القطار هى شبيهة بالناس التى رافقتها يومياً طيلة سنوات سفرى للجامعة .
غاب التكدس الشديد للركاب، غاب الزحام ،غاب التحرش بين الركاب ، غاب الذين يجدون متعة الركوب أعلى عربات القطار «المسطحين» غاب ركاب القطار الذين يعرفون بعضهم البعض بالأسم.
فهذا من مدبنة جرجا وهذا من قرية العسيرات وهذه طالبة من «بندار» وأخر من قرية بلا صفورة كلهم يقصدون محافظة سوهاج للعمل والدراسة .
هذا عامل بمصنع البصل وهذا عامل أو مهندس بمصنع الغزل والنسيج وهذا عامل بمصنع المزلاوى للطحينة والعلف والكسبة ،أو موطف بالسكة الحديد الكل يعرف الكل والكل فى رحلة يومية لسنوات وعقود يتزاملون فى قطار العمال أو الركاب.
لم أمر مرور الكرام على من بجوارى فى هذه العربة المعتمة والأبواب الغير مغلقة والنوافذ المكسرة لما هذا العدد القليل من الركاب؟
أين الزحام؟ أين تكدس الركاب أين الموظفين والطلبة والطالبات؟
أين أصحاب الياقات الزرقاء من ركاب القطار؟
لم تمض لحظات وتصلنى إجابة فورية مشاهد من الواقع لا تكذب ولا تتجمل وتجيبنى الصور على أسئلتى من أرض الواقع.
بجوار شريط السكة الحديد الذى يمر منه القطار تحولت الآلاف من الأفدنة التى أقيمت عليها صروح فخر صناعة ثورة ٢٣ يوليو مقرات مصانع الغزل والنسيج ومصانع تجفيف البصل إلى قطع أراضى وبعض المبانى
كانت هذه الأرض قلاع صناعية ضخمة وهذه القلاع تضم عنابر وهناجر بها الآلاف من العمال وألآف من الألات والماكينات لحلج وغزل القطن وانتاج الخيوط والغزول للتصدير وبها أماكن شاسعة لتشوين قناطير القطن وورش التريللات التى تنقل الإنتاج إلى موانئ التصدير إلى البلاد التى تستورد هذا النسيج وخيوط الغزول.
وهذه أطنان البصل التى يتم تجفيفها وتصديرها كل هذه الأراضى والمصانع تم تبويرها وإغلاقها وتحولت إلى عمارات شاهقة وشقق سكنية ووحدات إدارية ومحلات بلايستيشن وسيبرات للإنترنت ومقاه للشباب لقضاء الأوقات ويتصفحون المواقع المغرية.
تم تكهين الألات وتخريد المعدات وإزيلت أدوات الإنتاج وتسريح العمال.
وبدلاً من أن تقوم هذه المصانع بالانتاج والتصدير وجلب العملات الأجنبية صارت مناطق شعبية استهلاكية لا تنتج كسائها ولا تزرع محاصيل أكلها.
وصار من أقام فيها من المواطنين أعباء مستهلكين وليسوا منتجين.
فقدت القطارات الصغيرة بين المحافظات ركابها من عمال هذه المصانع ومن أجلهم دشنت السكة الحديد هذه الخطوط من القطارات فى كل المحافظات تقريباً لنقلهم وراحتهم.
لم تعد هناك بالمحافظة قلاع صناعية، ولم تعد هناك حاجة لعمال فقد تم منحهم مكافآت نهاية خدمة قروش قليلة حولتهم من صناع مهرة فى المصانع إلى ملاك أكشاك سجائر وبائعي مثلجات ومقدمى خدمات السيبرات وألعاب البلاي ستيشن.
سحقهم قطار الخصخصة بقيادة وفكر الوزير السابق مختار خطاب وبرعاية الوزير الأول واضع السياسة والخطة والمتعهد بتنفيذها رئيس الوزراء الراحل عاطف عبيد.
صارت قطارات الركاب أوالعمال منذ الثمانينيات و التسعينيات من القرن الماضى حزينة كئيبة فقدت بريقها رحل عنها روادها من الصناع والعمال المهرة.
ولم تعد هذه القطارات لديها رغبة فى التزين فقد تركها من اقلتهم سنين والذين بدورهم ردوا لهذه القطارات ولبلدهم الجميل وبادلوها العشق بانتاج الغذاء والدواء والكساء لهم ولبلدهم ولمن يستورد فخر صناعاتهم
.. غاب عن هذه النوعية من القطارات لسنوات طويلة سواعد العمال المصرين فقررت السكة الحديد مؤخراً وقف تسيير هذه القطارات لينطوى زمن جميل من العمل والإنتاج.
انطوى زمن الصناعة والزراعة
هذه هى السياسة وتقلباتها فى مصر المحروسة
لكن أمل عودة القطار من جديد لا يبارح الكثير من الناس
ففى هذه الرحلة وتطبيقا للمثل الشائع أن الكتاب خير رفيق فى الطريق كنت أتصفح كتاب «صحفيون غلابة» للأستاذ محمد العزبي الكاتب الصحفى بجريدة الجمهورية متعه الله بالصحة والسعادة قام بإهدائه لى منذ بضعة سنوات .
ووجدت فيه أجمل ما قرأت عن «قطار الأمل» وحكايات القطار فى الأدب والسينما العالمية يقول «العزبى»:
اهتزت مشاعرى وأنا أرى صورة نموذج لقطار والشاب الفلسطيني محمد لطفى واقف ببابه ينادى على اللاجئين فى مخيم بيت لحم يناديهم:»حيفا» . يافا . عكا . بيت نتيف» فيسرع كبار السن والشبان إلى القطار الذى يفترض أنه سيعود بهم إلى قراهم .. أنه حلم العودة لبيوتهم التى اضطروا للهجرة منها .
ومازال بعضهم يحتفظ بمفتاح بيته القديم ..لأنهم سيعودون ، ويتركه لأحفاده .. لأنهم سيعودون.
لم يتحرك القطار الذى كان متجها إلى القدس فى يوم ذكرى النكبة لأن القوات «الإسرائيلية»تحاصر المكان.
مهما طالت الرحلة على متن القطار فإنه سيقف ذات يوم عند محطة الوصول ..
الشاعر الفلسطيني محمود درويش كتب قصيدته «مقعد فى قطار»:
كل أهل القطار يعودون للأهل لكننا لا نعود إلى أى بيت.
ويصبح القطار رمزاً لكثير من الأشعار والروايات،وعنواناً لأفلام سينمائية مثيرة.
ويتخذه البعض مسرحاً للحب والتجسس
.. وتخيفنا «أجاثا كريستي» الشهيرة بروايتها التى أصبحت فيلما سينمائياً « جريمة فى قطار الشرق»
ولقد تأثرت بالفيلم المصرى «ساعة ونصف» الذى دار فى قطار.
ووضع الرجل أمه «كريمة مختار « التى تقدم بها العمر فيه ودس فى يدها ورقة بعنوانه كتب فيها « من يجدها يضعها فى أقرب دار للمسنين أو المحسنين.
ويعيش الناس فى الهند حياتهم داخل القطارات فلما فكروا فى السياحة جعلوا من قطارات المهرجانات الخاصة رحلة للخواجات يسافرون بها عبر البلاد أكل ونوم وفرجة على المدن والآثار ، وأطلقوا عليها أسم «قصر على القضبان».
ولا أنسى محطة سيدي جابر قبل «الأسكندرية «بدقائق حيث ينزل معظم الركاب.. المغزى يغادرون الحياة .. ومن لم ينزل لن يلبث أن يصل القطار إلى محطة مصر.
أنتهى إقتباسى من كتاب «العزبى»
لكن حديث القطارات لا ينتهى فالقطار المتجه إلى القدس لم يتحرك بعد للعودة بل أخشى من قطار أوشك على القيام ومن بداخله يحمل تذكرة ذهاب فقط بلا عودة .
أنه قطار التهجير القسرى الذى تنفذه حكومة اليمين المتطرف الصهيونية بمحاولاتها إجبار الشعب الفلسطينى على ترك ما تبقى له من أرض الثمانية وأربعين والهجرة والرحيل من وطنهم.
سوف يعود قطار الانتاج فى بلادنا ويعود العمال إلى المصانع والمزارع .
وسوف يعود غدا قطار القدس إلى حيفا ويافا وغيرها من البلدات الفلسطينية مهما طال الزمن.
فسنة الله فى الكون العدل والقصاص وعودة الحقوق لأصحابها وزوال الكيان المحتل لا محالة.