آراء ومقالات

الفجوة الصامتة… مسرحية سياسية بلا جمهور

بقلم/ رجاء القماش

الإنتخابات في أي بلد طبيعي تكون لحظة فارقة، يتطلع إليها المواطن ليجد من يتحدث بلسانه، ويضع حلولًا لأزماته اليومية، ويمنح أملًا في غدٍ أفضل. لكن المفارقة الكاشفة في مشهدنا الحالي أن الأحزاب والمرشحين جميعًا تقريبًا لم يقتربوا من أي قضية تشغل الشارع فعليًا.

الثانوية العامة التي تحولت إلى كابوس سنوي للأسر، أزمة الصحة التي تستنزف ما تبقى من طاقة المواطن وماله، الحوادث التي تخطف الأرواح يوميًا، التضخم الذي يلتهم الجيوب، الدولار الذي صار حديث المجالس والمقاهي، والأمن القومي الذي يقلق كل بيت… كلها قضايا ثقيلة ومصيرية، لكنها غائبة تمامًا عن المنصات الانتخابية، وكأن السياسيين يعيشون في جزيرة معزولة لا يصلها صوت الناس.

هذا الانفصال له أسبابه. فالكثير من المرشحين يخشون فتح الملفات الساخنة، ويفضلون الاكتفاء بخطابات مطاطية وشعارات إنشائية مثل “النهضة” و”الإصلاح”، وهي كلمات لا تعني شيئًا ما لم تتحول إلى خطط واقعية قابلة للتنفيذ. والأحزاب نفسها تفتقر إلى برامج حقيقية، فتلجأ إلى الصور المبهرة والوعود العامة، بدلًا من تقديم سياسات ملموسة تمس حياة الناس مباشرة.

من المفارقات الكاشفة التي نعيشها

ليست السياسة وحدها من تعيش في عالم موازٍ، بل المشهد كله مليء بمفارقات تكشف حجم الفجوة بين الخطاب والواقع. نسمع عن “خطة إصلاح التعليم” بينما ينهك الطلاب والأسر تحت ضغط الثانوية العامة. نقرأ عن “تطوير الصحة” بينما المستشفيات الحكومية تعاني من نقص في أبسط الإمكانيات. نرى شعارات “محاربة الغلاء” بينما المواطن يواجه أسعارًا تتضاعف دون تفسير مقنع.

المفارقة الأكبر أن الشارع يعرف مشاكله جيدًا، يتحدث عنها يوميًا في البيت والمقهى ووسائل النقل، بينما السياسي يتجنبها في كل خطاب. هنا يتحول المواطن إلى “خبير واقعي” يعرف حجم الأزمة، والسياسي إلى “متحدث رسمي” يكتفي بالكلام المنمق.

لكن غياب القضايا الحقيقية عن الخطاب السياسي لا يمر دون ثمن. فالناس حين لا يجدون من يعبر عنهم، يفقدون الثقة في السياسة برمتها، ويتزايد العزوف عن المشاركة الانتخابية، ويصبح البرلمان القادم مجرد قاعة مغلقة تتبادل فيها النخب الكلام بلغة لا يسمعها الشارع. عندها تتحول الانتخابات إلى مجرد ديكور، والسياسة إلى عرض مسرحي بلا جمهور.

والحقيقة أن السياسة ليست ترفًا ولا وسيلة لتلميع الأشخاص، بل هي فن إدارة الأزمات. قيمتها الحقيقية تظهر حين تجيب عن أسئلة الناس الملحة: كيف نطور التعليم ونخفف أعباء الثانوية العامة؟ كيف نصلح المنظومة الصحية ليحصل المواطن على علاج كريم؟ ما الخطة لتقليل الحوادث اليومية؟ كيف نواجه التضخم وارتفاع الأسعار؟ وكيف نحمي أمننا القومي وسط تحديات متزايدة؟ هذه هي الأسئلة التي ينتظر المواطن إجابات عنها، لا خطبًا ولا وعودًا عائمة.

المفارقة اليوم أن السياسي يتحدث، لكن أحدًا لا ينصت، لأن كلماته لا تمس حياة الناس. وإذا لم يُردم هذا الخندق العميق بين الطرفين، ستظل الانتخابات مجرد طقس شكلي لا يترك أثرًا في الواقع.

فالسياسة، في جوهرها، إما أن تكون مرآة لآلام الناس وآمالهم… أو تصبح بلا معنى على الإطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى