

بقلم/ رجاء القماش
في الأهرام كتب الأستاذ عادل حمودة مقالًا بعنوان «أصحاب القداسة جواسيس»، ووجّه فيه اتهامًا قاسيًا إلى جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، معتمدًا على مصدر يتيم، ثم ختمه بعبارة حاسمة: “قولًا واحدًا”.
لكن هل يجوز أن يُختزل تاريخ أمة في “قول واحد”؟ وهل تُهدم أعمدة نهضة كاملة برواية يتيمة لا نعرف من كتبها ولا في أي سياق وُلدت؟
جمال الدين الأفغاني لم يكن مجرد رجل، بل كان فكرة ثائرة ضد الاستعمار وضد جمود الفكر. ومحمد عبده لم يكن مجرد إمام، بل كان مدرسة جمعت بين العقل والدين، وفتحت أبواب الإصلاح أمام أجيال متعاقبة. هؤلاء ليسوا أسماء على ورق، بل جذورًا لوعي أمة، وحلقة وصل بين حاضرها وماضيها.
إن الطعن في هؤلاء المصلحين لا يطعن في أشخاصهم فقط، بل في وعينا وهويتنا وتاريخنا الذي تشكّل على أيديهم. من يصفهم بالجواسيس كمن يسكب الحبر الأسود على صفحة بيضاء كُتب عليها حلم النهضة، ويحوّلها إلى مسرحية عبثية بلا معنى.
نحن لا ندعو إلى تقديس البشر، ولا إلى رفعهم فوق النقد. لكن النقد غير التشويه. والإنصاف غير الإثارة. والتاريخ لا يُقرأ بمصدر يتيم، بل بتعددية الروايات، وبميزان العقل، وبأمانة الباحث الذي يعرف أن كلمة قد تهدم جسرًا من الثقة بين الأمة وماضيها.
الأمة التي تسمح بتلويث رموزها بلا بينة صلبة، تفقد احترامها لذاتها، وتُسلم وعيها لأقلام تبحث عن العناوين الصاخبة أكثر مما تبحث عن الحقيقة. والهوية لا تذوب إلا حين نفرّط في صانعيها، ونتخلى عن الدفاع عمن صنعوا وعينا.
فلتكن الكلمة أمانة، ولنعلم أن من السهل توجيه اتهام، لكن من المستحيل محو أثر من غرسوا في الأرض جذور النهضة. الأفغاني وعبده أخطآ وأصابا، لكنهما كانا رجال مشروع، ورجال وعي، ورجال قضية. والتاريخ العادل لا يجلد رجاله برواية يتيمة، بل ينصفهم برؤية شاملة تحفظ للأمة هيبتها، وللوعي جذوره.
كلمة اتفاق لا تعني تأييدًا كاملًا
ومع ذلك، لا بد أن أشير إلى أنني أتفق مع الأستاذ عادل حمودة في عبارة واحدة فقط قالها في مقاله:
«يجب ألا نفرط في منح القداسة لكل من تحدث دينيًا حتى لو أخرج من جيبه مفتاح الجنة وتذكرة دخولها».
فهذه حقيقة لا خلاف عليها؛ فالعلماء بشر، لا أنبياء. لكن تحويل هذه الحقيقة إلى بوابة للتشكيك في رموز الإصلاح الكبار استنادًا إلى مصدر يتيم، هو ما لا يمكن أن يقبله عقل منصف ولا تاريخ عادل.