

بقلم/ رجاء القماش
في الآونة الأخيرة، أطلق عمرو موسى تصريحات أثارت الجدل، حيث وصف جمال عبد الناصر بأنه ارتكب أخطاء ضخمة، وأن الهزيمة في 5 يونيو 1967 كانت كارثة لا يمكن التسامح معها، وأن مصر ما زالت تعيش عواقبها حتى اليوم. هذا الطرح، رغم ما فيه من اعتراف بجانب من الحقيقة حول النكسة، إلا أنه يختزل إرث عبد الناصر كله في لحظة انهيار واحدة، ويتجاهل ما قدمه للبناء والتنمية والتقدم الوطني.
جمال عبد الناصر ليس مجرد رئيس، بل كان رمزًا للوطنية والانتماء، ومؤسسًا للبنية الاقتصادية والزراعية والصناعية الحديثة لمصر، وصاحب مشروع تحرري شامل. جاء من خلفية شعبية ليعكس آمال الفلاحين والعمال في التحرر من الاستعمار والإقطاع، وكان تأميم قناة السويس عام 1956 ذروة مشروعه الوطني، حيث تحدى القوى الاستعمارية الكبرى وأعاد لمصر سيادتها على شريان حيوي للاقتصاد العالمي. لم يقتصر دوره على السياسة الخارجية، بل أحدث تحولات داخلية كبرى؛ تبنى سياسات اجتماعية هدفت إلى توسيع قاعدة التعليم المجاني، وهو ما جعل أبناء الفلاحين حاضرين في جميع مجالات الدولة، كما أطلق قانون الإصلاح الزراعي وأنشأ البنك الزراعي لخدمة الفلاحين والمجتمع الزراعي. أضاف إلى ذلك تأسيس مصانع الغزل والنسيج والصناعات الثقيلة، مما جعل مصر دولة منتجة ذات اكتفاء ذاتي، وجعل العامل المصري يزرع ويصنع ويبني مستقبل وطنه.
صحيح أن غياب الديمقراطية وتغوّل الدولة الأمنية وحل الأحزاب وتقييد الصحافة رسخت صورة الحكم الفردي، لكن لا يمكن اختزال عبد الناصر في هذه السلبيات وحدها، لأن طبيعة الظروف التي كانت تعيشها مصر من مؤامرات استعمارية وضغوط خارجية واقتصاد هش، كانت تتطلب قيادة مركزية قوية قادرة على الحسم وإدارة التحديات.
النكسة عام 1967 كانت لحظة مأساوية بالفعل، لكنها لم تكن نهاية التجربة. فعبد الناصر، رغم ثقته المفرطة في صديقه عبد الحكيم عامر، لم يتحمل وحده تبعات الهزيمة، إذ كانت هناك خيانات وتآمرات إقليمية ودولية سبقت الحرب وأثرت على مسارها. ورغم ذلك، لم ينهزم داخليًا؛ بل جعل من النكسة سببًا لإعادة بناء الجيش المصري من جديد، وأعاد هيكلته بالكامل، واضعًا اللبنات الأولى لخطط العبور التي نُسبت لاحقًا إلى السادات، بينما أساسها كان من عمل عبد الناصر ورجاله.
إرث عبد الناصر مليء بالتناقضات، لكنه أكبر بكثير من أن يُختزل في هزيمة واحدة. هو من أيقظ الوعي القومي، وفتح الباب لحركات التحرر في العالم الثالث، ورفع اسم مصر عاليًا حتى صار العالم يهاب زعيمها. في عهده تكوّن أكبر جهاز مخابرات بالمنطقة، وصارت مصر لاعبًا رئيسيًا على الساحة الدولية، ورمزًا للمقاومة والكرامة. كما أنه لم يكن قائدًا محليًا فحسب، بل زعيمًا عربيًا التفّت حوله شعوب بأكملها، ليصبح عنوانًا للقومية الوطنية والعربية، واسمه سيظل خالدًا أبد الدهر.
ومن المفارقات أن عمرو موسى نفسه استفاد من إرث عبد الناصر قبل أن ينتقده؛ فقد أتمّ تعليمه في ظل مجانية التعليم التي أرسى دعائمها عبد الناصر، وهي المبادئ التي مكّنت أبناء الطبقات البسيطة من الوصول إلى أعلى المراتب في الدولة، قبل أن يذبح هو اليوم إرث صاحب الفضل بتصريحات سطحية لا تنصف التاريخ.
الحقيقة أن لكل حصان كبوة، ولا يصح أن يُختزل عبد الناصر في النكسة وحدها. فكما نسبت إليه الهزيمة، يجب أن يُنسب إليه أيضًا إعادة بناء الجيش، وبناء السد العالي، والمشروعات الصناعية والزراعية، والتعليم المجاني، وإطلاق شرارة التحرر الوطني في العالم العربي. بين المجد والنكسة يقف عبد الناصر كواحد من أعظم الزعماء وأكثرهم مأساوية في الوقت نفسه، لكن إرثه الوطني لا يموت، بل يتجاوز الهزيمة ليبقى رمزًا خالدًا في وجدان الأمة.
لقد بنى عبد الناصر مصر الصناعة والزراعة والتعليم، وأعاد هيكلة الجيش بعد النكسة، وجعل من المحنة منحة لتقوية الوطن.
ومن المفارقات اللافتة أن جمال عبد الناصر، الذي كان يحظى باحترام وتقدير حتى من أعدائه الذين كانوا يحسبون له ألف حساب، أصبح اليوم عرضة لهجوم بعض أبناء وطنه الذين يتصيدون زلات فترة حكمه ويختزلون مسيرته في أحداث بعينها. تلك المفارقة تكشف حجم التناقض بين واقع عبد الناصر التاريخي ومكانته الحقيقية، وبين محاولات الانتقاص من إرثه الوطني في الحاضر.
والإنصاف يقتضي أن نذكر ما له وما عليه، لكن تبقى الحقيقة أن اسم عبد الناصر سيظل عنوانًا للقومية الوطنية والعربية، ورمزًا خالدًا في ذاكرة الأمة.
الحقيقة التي يجب أن تُقال، يا أستاذ عمرو موسى، أن التاريخ لا يُختزل في جملة ولا يُمحى بتصريح. فحين تنتقد عبد الناصر، تذكر أن مصانع الغزل والنسيج، والسد العالي، والتعليم المجاني، والإصلاح الزراعي، وبناء الجيش بعد النكسة، ليست مجرد شعارات، بل إنجازات ملموسة صنعت مصر الحديثة. وتذكر أيضًا أنك أنت نفسك من أبناء هذه الحقبة، درست وتخرجت على مبادئها، واستفدت من مجانية التعليم الذي أتاح لك موقعك ومكانتك. فإذا كان عبد الناصر قد أخطأ، فقد كان خطؤه بحجم الزعامة، أما إسهامه وعطاؤه وبصمته وإنجازه فقد كانت بحجم الأمة. وإرثه سيظل خالدًا، يتجاوز كل الهزائم، لأنه عنوان القومية الوطنية والعربية، ورمزٌ لا يموت في ذاكرة التاريخ.