آراء ومقالات

سوريا بين الأمس واليوم… من عبور أكتوبر إلى عبور المستقبل

بقلم : رجاء القماش

لا تزال سوريا جرحًا مفتوحًا في قلب الأمة العربية. جرحٌ تتقاطع فيه خيوط الماضي والحاضر، وتتراكم فوقه خيبات الحاضر التي لم تترك للسوريين سوى بقايا حلم بالحرية والكرامة.
حين نتحدث عن السادس من أكتوبر، نتذكر في مصر عبور قناة السويس، واستعادة الأرض والكرامة. أمّا في سوريا، فتبقى ذكرى أكتوبر مختلفة ومؤلمة؛ فقد شارك السوريون في الحرب آنذاك ببطولة وبذلوا دماء غالية، لكنهم لم يستعيدوا الجولان حتى اليوم. لذلك فإن الحديث عن “عيد أكتوبر” في دمشق كان دائمًا محمّلًا بشيء من التناقض، لأن النصر لم يكتمل، ولأن الأنظمة المتعاقبة اكتفت بترديد شعارات الانتصار بينما ظل الاحتلال قائمًا.
الأكثر إثارة للأسى هو أن الجرح السوري لم يعد مقتصرًا على الجولان. فمنذ أكثر من عقد من الزمن، تعيش البلاد حربًا مدمّرة، تعددت فيها القوى الأجنبية، وتنازعت فيها الفصائل، حتى أصبح الشعب السوري نفسه هو الضحية الكبرى. والمشهد اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على حرب أكتوبر، يكشف أننا لم نحقق عبورًا آخر نحو الحرية أو استعادة الأرض، بل عادت سوريا لتصبح ساحة نفوذ للأطراف الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، لا يمكن المرور مرور الكرام على إلغاء الاحتفال بعيد الشهداء، وهو عيدٌ كان يرمز إلى كفاح السوريين واللبنانيين ضد الاستبداد العثماني. أن يُمحى هذا اليوم من ذاكرة وطنية امتزجت فيها دماء أحرار سوريين ولبنانيين، هو أمر يطرح أسئلة أعمق بكثير من إلغاء أي احتفال آخر. فهل يعني ذلك طمس الذاكرة الوطنية المشتركة؟ أم يعني أن رمزية التضحية من أجل الحرية لم تعد مرغوبة في زمنٍ يُراد فيه إخضاع السوريين لسلطات أمر واقع؟
لقد آن الأوان لأن نطرح الأسئلة الصحيحة:
كيف يمكن للسوريين استعادة وحدتهم الوطنية في ظل نفوذ القوى الأجنبية؟
كيف يمكن إعادة بناء دولة مؤسساتية بعد أن تهشمت الثقة بين الشعب والنظام؟
ما مصير الأرض المحتلة والجولان إذا ظلّ الصراع الداخلي يأكل كل جهد وموارد البلاد؟
الإجابة عن هذه الأسئلة لا تكون بالشعارات، بل بعمل سياسي ووطني حقيقي يقوم على مصالحة تاريخية تضمن العدالة لضحايا الحرب، وتفتح أفقًا لمستقبل يجمع السوريين جميعًا، بعيدًا عن منطق الانتقام أو الثأر.
على المستوى العربي والدولي، يجب أن ندرك أن سوريا ليست مسرحًا للمصالح فقط، بل قلب استراتيجي للأمة. مصر، التي خاضت حرب أكتوبر من أجل استرداد الأرض، تعرف أن النصر لا يكتمل إلا بتحرير الإرادة، وهذا درس يمكن أن تستفيد منه سوريا اليوم: النصر الحقيقي يبدأ من الداخل، من إرادة السوريين أنفسهم، قبل أي تدخل خارجي.
إن عبور أكتوبر الذي صنع النصر في 1973 يجب أن يتحول إلى عبورٍ آخر نحو سلامٍ عادل وحرية حقيقية، ليبقى السادس من أكتوبر يومًا عربيًّا جامعًا، لا مجرد ذكرى عابرة أو شعارًا بلا معنى. السوريون بحاجة إلى استعادة ذاكرتهم الوطنية، وإعادة بناء وطنهم بالعدل والمساواة، وبعيدًا عن أي وصاية أو تدخل، ليصبحوا، أخيرًا، صُنّاع مصيرهم ومستقبلهم.
سوريا اليوم ليست مجرد أرض جغرافية، بل هي إرادة شعب يرفض الانكسار. كل تحدٍ هو فرصة، وكل جرح هو درس، وكل ذكرى—سواء كانت السادس من أكتوبر أو عيد الشهداء—هي شعلة تُذكّرنا بأن الحرية والكرامة لا تُهدى، بل تُنتزع بإرادة صلبة ووحدة حقيقية. عبور النصر الحقيقي يبدأ من الداخل، من كل سوري يختار أن يكون صانعًا لمستقبله، لا مجرد شاهد على الأحداث. فلتكن سوريا القادمة وطنًا يليق بأحلام أجياله، وطنًا تستحق فيه الدماء أن تُخلّد، والآمال أن تتحقق، والوطن أن يُستعاد بكل كبرياء وعزم.

زر الذهاب إلى الأعلى