

بقلم: د. يسري عبدالعال
نواصل -عزيزي القارئ – ذكر بعض المتفرقات الأدبية واللغوية، منها ما يتعلق بأصول دلالات بعض العبارات، أو تصويبات لغوية لأخطاء تشيع على الألسنة.
الشيءُ بالشيءِ يُذْكَرُ: تَعْبِير يُسْتَعْمَلُ لِتَذَكُّرِ حَدَثٍ ما عِنْدَ حُدُوثِ آخَرَ شَبِيهٍ بِهِ، كأن يقول الكاتب: “وقد أطلنا الكلام في هذا الجواب تتميما للفائدة؛ لأن الشيء بالشيء يذكر والحديث ذو شجون…”، وهذا يعد من باب الاستطراد في الكلام، للمشابهة والمماثلة.
ولقد طال بحثي عن هذه العبارة، هل هي من الأمثال العربية القديمة؟ وفي الحقيقة يعتقد الكثيرون أنها من الأمثال لكثرة شيوعها نثرا وشعرا، لكن بعد البحث والتمحيص انتهى رأيي – وقد أكون مخطئا- أنها ليست من الأمثال العربية؛ إذ ليس لها ذكر في كتب الأمثال المعتمدة في الأدب العربي، وبالعودة إلى كتب التراث وجدت العبارة ذكرها أولا المُبرد المتوفى 285هـ في كتاب (الكامل في اللغة والأدب)، لكن بصيغتين مختلفتين بتقديم وتأخير، الأولى: “نَذْكُر الشيء بالشيء”، وهذه العبارة وردت مرة واحدة في السياق التالي: “وليس هذا الحديث من الباب الذي ذكرنا، ولكن نَذْكُر الشيء بالشيء، إمَّا لاجتماعهما في لفظٍ، وإمَّا لاشتراكهما في معنى”. الكامل2/211
الثانية: “الشىءُ يُذْكَر بالشىءِ”، وذلك في أكثر من سياق، مثل: “قال أبو العباس: والشيء يُذْكَرُ بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما”، الكامل٣/٩٥. و”الفتوى فيمن أصاب صيدًا وهو مُحْرِم والشيء يُذْكَرُ بالشيء”. الكامل 3/123. و”ولكنّ الشىء يُذْكَرُ بالشىء، والحديث يجرّ الحديث”. كتاب (الفاضل) للمبرد ص82 ، وص108 ، “والشيء يذكر بالشيء”: كتاب (التعازي والمراثي والمواعظ والوصايا) له أيضا ص٤٤.
وتابع أبو الفرج الأصبهاني- (المتوفى ٣٥٦هـ) في كتابه (مقاتل الطالبيين) ١/٣٣٨ – المبرد، حيث قال: “قال أبو الفرج: وهذا ليس من هذا الباب، ولكن الحديث ذو شجون، والشيء يُذْكَر بالشيء”.
وحسب ما توصلت إليه بحثا عن أصل عبارة: “الشيء بالشيء يذكر”؛ فإن القاضي التنوخي المتوفى 384هـ، في كتابه (الفرج بعد الشدة) أخذها من المبرد وصاغها الصياغة الحالية، وذلك في موضعين، الأول- قوله: “وَهَذَا كثير متسع، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل، فنستوعبه ونستوفيه، وَلَكِن الحَدِيث ذُو شجون، وَالشَّيْء بالشَّيْء يذكر، ونعود إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ”، كتاب الفرج بعد الشدة 1/ ١٦٦
والموضع الثاني: “وَمن محَاسِن شعر البحتري الَّذِي يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب، وَإِن كَانَ تعلقا ضَعِيفا، إِلَّا أَن الشَّيْء بالشَّيْء يذكر، وَلَا سِيمَا إِذا قاربه…” الفرج بعد الشدة 2/18، ثم تتابع الشعراء والكتاب في استخدام العبارة الجديدة، مثل: ابن شرف القيرواني (المتوفى 460هـ):
رأتْ ظبية الوعساء عيني فهيجت * لها ذكرهم والشيء بالشيء يذكر
ومثل الشاعر ابن نباتة من شعراء العصر المملوكي:
أيا من ذكرنا الشافعيّ وحاتمًا … بآلائه والشيء بالشيء يذكر
ويقول أيضا:
تذكرتُ لما أَن رَأَيْتُ جبينها … هِلَال الدجى وَالشَّيْءُ بالشَّيْءِ يذكر
كما أن للأسعد بن مماتي (المتوفي 606هـ) كتابا بعنوان: “الشيء بالشيء يذكر”.
هذا ومن باب “الشيء بالشيء يذكر” نذكر أن الشيخ الطاهر بن عاشور المتوفى 1973م- وهو عالم عصره في اللغة، والبيان، والتفسير- ابتكر في كتابه (التحرير والتنوير) عبارة أخرى وهي: “السيّ بالسيّ يذكر”، ومعناها النظير والمثل، أي أن كلّ نظير ومثيل يذكّرك بمثيله، وظنها بعض الباحثين أنها الصواب لعبارة (الشيء بالشيء يذكر)، والحقيقة أنها قياس عليها، ومثلها العبارات التالية التي جمعتها د. حورية الديري في مقال بجريدة البلاد البحرينية بتاريخ 6 ديسمبر 2022: الفعل بالفعل يجبر، الود بالود يغفر، الحياة للحي تزهر، النور بالنور يكسر، السعي بالسعي يوصل، الخير بالخير يكثر، الجمال بالجمال يبهر.
وبالنسبة لكلمة (سيّ) بمعنى المثل والنظير فهي تثنى، فيقال: هما سيان: أي هما مِثلان، ثم تطورت دلالة (سيان) فأصبحت بمعنى لا فرق، يقال: سيَّانٌ عندي وجودُك وعَدَمُك. كما تدخل (لا النافية للجنس) على (سيّ) المتصلة بـ(ما) فيقال: (لاسيما) فتأتي بمعنى خصوصا، مثل: أرجوكَ الانتباه، لاسِيَّما أنَّ الأمر مهم.
وللحديث بقية إن شاء الله.