

بقلم: عبد المجيد حسن خليل
روائي نوبي
الغناء والموسيقى من الفنون النوبية القديمة التى مارسها الإنسان النوبى, وعبرت دائماً عن روح الحياة النوبية وعكست طبيعة المجتمع النوبى وتقاليده, والنوبى فنان بطبعه ويشارك فى الغناء فى كل المناسبات السارة , ولكنه لايحترف الغناء ويقتاد به ولم يكن مصدر رزقه , ومن عشقه لهذا الفن الشعبى كان يتكبد المشقة فى الانتقال لمكان او نجع يبعد عن بيته كثيراً حتى لايفوته الاستمتاع والمشاركة فى الغناء فى حفل عرس وقد لا يكون مدعواً اليه .
وجلسات السمر فى النوبة القديمة لاتكتمل الإ بالغناء وليس من الضرورى أن يكون هناك مطرب فالجميع يجيد الغناء ويهواه وهو المجال الذى يلتقى فيه الجميع رجال ونساء واطفال , ومجالات الغناء تتسع لكل أحوال أهل النوبة ويمارسونه أثناء تسوية الأرض الزراعية وفى أيام الحصاد وجمع المحصول,والمرأة النوبية تغنى فى بيتها وهى تدير الرحى وايضاً وهى تصنع الشعرية أشهر الأكلات النوبية , وتغنى لطفلها الرضيع ولزوجها الغائب بحثاً عن الرزق خارج النوبة, وتغنى الفتيات النوبيات فى طريق عودتهن من النيل الى بيوتهن حاملات صفائح الماء,وتبقى حفلات العرس هى المناسبة الكبرى للغناء وهو لاينقطع من يوم الزفاف ويستمر سبعة أيام وتتفاوت نسب الاجادة فى الغناء بين اقسام النوبة الثلاثة (الفاديكات – العرب – الكنوز) فالفاديكات يتميزون بقدر كبير من الأصالة فى فنون الغناء والموسيقى ويغلب على فنونهم الطابع السودانى
ويشتهر الفاديكات بضربات الكف والأقدام مع دقات المزاهر فى تناغم وتناسق يبرز الإيقاع ويشعله فينخرط الجميع فى رقصة الكف بإنفعال وأحساس قوى بالألحان والكلمات , ورقصة الكف من اشهر الرقصات فى النوبة القديمة ويلعب المزهر فيها دور كبير , ومن الرقصات التى تصاحب الغناء رقصة التربالة وفيها تقف مجموعة من خمسة أشخاص فى صف واحد أمام الراقصة وهم يضربون بأكفهم وفقاً لإيقاع الطنبورة ويقف المغنى فى صف الراقصة التى تتقدم لصف الراقصين مرة وتتأخر مرة كل ذلك فى حركة ايقاعية تثير الحماسة فى الجميع, وهناك رقصة المبارزة على دقات المزهر ويمسك الراقصون السيوف بأيديهم ويدورون حول بعضهم البعض ويتلاحمون احياناً ويحاول كل منهم ان يمس الآخر بطرف سيفه دون أن يصيبه ويتحاشى ان يمسه غريمه وهم فى كل حركة مقيدون بإيقاع المزاهر
ومن أشكال والوان الغناء فى النوبة القديمة الاغانى ذات الاطار المفتوح وهى تظهر موهبة المطرب ومن ينافسه فالاغنية فى اطارها المفتوح تفسح المجال للمطرب ان يبدأ بالغناء عن أى موضوع مثل الغزل وغيره ويواصل مرتجلاً وينافسه مطرب آخر ويرتجل كل منهما مقطع ويأخذ كل مطرب الهامه فى الارتجال من مقطع زميله الذى سبقه, ويغلب على هذا النوع من الغناء طابع المنافسة, وقرى النوبة الوسطى (العرب) يطلقون على هذا النوع من الغناء (جر النميم ) فمثلاً إذا أسس المغنى الأول مقطع من الأغنية على قافية معينة فلابد ان يلتزم المطرب الآخر بنفس القافية والمهارة الغنائية والموسيقية عندهم فقيرة الى حد ما ولاترتقى لمهارة الكنوز والفاديكات ولكن المهارة الشعرية والكلامية عندهم مميزة وتعوض الضعف فى الغناء والموسيقي
اللون المفضل
والغناء الجماعى هو اللون المفضل عند كل أهل النوبة حيث يغلب على الأغنية الجماعية طابع المرح والجمل القصيرة والإيقاع السريع , أما الأغنية الفردية يغلب عليها الطابع الحزين فى موضوعها ولحنها ويكثر فيها شكوى الزمن وصد وهجران الحبيب فى اطار مايسود الحياة النوبية من تقاليد فالحبيب يكتم حبه وان نطق به فلن يرى محبوبته , وعندما يراها لايجرؤ أن يبوح بحبه ويقول احد المغنيين فى هذه الحالة :
عندما اراكى لا استطيع ان افرح
وعندما لا اراكى لا افرح كذلك
وسوف نموت ياسمراء
دون ان ننعم بحبنا
واسمر اللونا
وتصور كلمات الاغنية حال المحب عندما يخلو الى نفسه فى غفلة من الجميع ويقول:
انا راقد عليل بغرامها
وعندما تغفل عين امى عنى
انخرط فى البكاء على غرامى
واسمر اللونا
وعندما سافرت محبوبته الى مصر عبرت الاغنية عن ذلك :
مادمت قد ازمعت السفر الى مصر
فأنا على استعداد لأن اكتب اليك
خطاباً بدموعى
لكن حيرتى هى بإسم من ارسل الخطاب
واسمر اللونا
ونلاحظ كلمة واسمر اللونا كمقطع انتقال متكرر فى الاغنية النوبية وتستخدم فى معظم الاغانى .
الأغنية النوبية القديمة كان لها دور حيوي فى تأكيد التآلف وتنشيط الروح الجماعية وهى قبل ذلك عنصر من عناصر سمرهم المحبب وانيس عند انخلاطهم فى العمل ,والغناء مستمر حتى الآن فى النوبة الجديدة ولايمكن ان ينتهى إلا عندما ينضب معين العاطفة والخيال , وان كان التميز واضحاً فى اغانى النوبة القديمة.