

بقلم
عبد المجيد حسن خليل
روائي نوبي
النوبيون سلالة بشرية عريقة عراقة الاِف السنين، توارثوا حضارات وثقافات متعددة تحولت الى طقوس وعادات شملت كل جوانب حياتهم ،مارسوها وانسجموا معها وظلت لصيقة بهم فى بيئتهم النوبية ،ولعل ابرز العادات والتقاليد والمبادئ التى توارثها اهالى النوبة التعاون والتكاتف ،
تلك الفيضلة التى بعثت دائماً شعوراً بالاطمئنان ازاء ما تاتى به الايام واشاعت روح الالفة والجماعة والهدوء والرضا فى كل مناحى الحياة ،واكتسبوامن ممارسة التعاون والتكاتف صفات خلقية طيبة مثل الكرم ونصرة الضعيف والمحتاج والامانة وشرف الكلمة والاعتداد بالنفس مهما كانت احوالهم المعيشية .
ومن صور التكاتف والتعاون فى النوبة القديمة ان المرأة الحامل كانت تحظى برعاية كبيرة من كل نساء القرية لا تفضلاً ولا رداً لجميل سابق وانما درءاً للعنة تصيبها ان تخاذلت عن تقديم المعونة والخدمة للمرأة الحامل وخوفاً من نظرة المجتمع النوبى فى القرية ونبذها اذا تقاعست ،
والمرأة الحامل كانت تتنقل من مكان لآخر مستندة على كتف اثنتين من اقاربها ويرددن على مسامعها الاغانى التى تحض على التحمل والصبر والدعوات بأن يأتى الله بساعة يسر وسهولة اثناء ولادتها ، والمرأة النوبية قديماً لم تكن تشتهى وتتوحم على مأكولات بعينها وأنما كانت تتوحم ويطيب لها أن تأكل الطمى النظيف من النيل ،
ويتسابق النساء فى القرية على تقديم الطمى للحامل بعد تشكيله الى دوائر صغيرة وتجفيفه،وتمتصه المرأة الحامل وتشعر بالراحة النفسية والجسدية ويطلق المتوكية على هذا الطمى “فورفوكى”
واذا تصادف وسافرت المرأة الحامل مع زوجها حيث عمله بالقاهرة فأنها تبحث عن “الفورفوكى”فى الطين العالق فى الثوم او حبات الطين المخلوطة مع الفول عند العلاف ، وفى الأيام الأخيرة من الحمل تبدأ المرأة النوبية الأستعداد لأستقبال المولود بأن تضع فوق رأسها قطعة من القماش الابيض بها ثقب يدخل منه رأس المولود ليكون أول ثوب يرتديه المولود ، وتحرص المرأة ان يكون الثوب من بقايا ثياب رجل صالح وطاهر من رجال القرية تيمناً وأستبشاراً بصلاح المولود،وتبدأالقابلة فى أستقبال المولود وتسحب الثوب من فوق راس الام ليرتديه المولود وان كان ذكرأستقبل بفرح وابتهاج من الجميع وأن كان أنثى أستقبلت بصمت رهيب ولكنه صمت مغلف بالرضا وعدم الامتعاض خاصة من الام،
والرجل فى النوبة القديمة لا يحضر مخاض زوجته ويبتعد تماماً عن هذا الشأن النسائى ويظل يعمل فى ارضه الزراعية فاذا سمع صياح ورأى من بعيد موكب فرح قادم ناحيته يدرك ان المولود ذكر ويعبر عن فرحته باطلاق الأعيرة النارية فى الهواء وأول شخص يصل اليه للتهنئة يأخذ منه البشارة وكانت البشارة عبارة عن جنيه ذهب
أما اذا كانت المولودة أنثى فلا يذهب اليه أحد قط ، فيدرك أن المولودة انثى وعندئذ يعتكف فى ارضه الزراعية سبعة ايام لايذهب فيها لبيته ويلاحظ ان السبعة ايام تنتهى يوم السبوع وحيث ان الانثى لا يقام لها سبوع ولا أحتفالات فلا حاجة لوجوده لتوفير احتياجات السبوع .
الزيارة ممنوعة علي هؤلاء
وتبدأ نساء القرية فى زيارة الام وتقديم المعونة والمساعدة ، ويحظر على انماط معينة من الناس زيارة الأم والرضيع خوفاً من “المشاهرة” وهى بعض الممنوعات حتى يستمر ثدى الام فى ضر اللبن للرضيع ومن الاشخاص الممنوع دخولهم على الام والمولود من غسلت ثوبها فى النيل خوفا من ان يكون قد تلبسها كائن شرير من الكائنات التى تعيش فى النيل وكذلك حالق ذقنه ومن يحمل لحما وأيضا من حضر من جنازة ومن قتل عقرباً فقديكون العقرب متلبس لروح احد ،وتمنع ايضاً المرأة المستجدية “الشحاتة”من الاقتراب من منزل الام ومولودها .
ويشعر النوبيون دائماً بالوفاء للنيل وبأن كل طفل يولد فى النوبة انما هو”ابن النيل” ويخرج الأهل والأقارب حاملين المولود فى موكب احتفالى قاصدين النيل يتقدمهم صبى يحمل خنجراً يلوح به راقصاً فى الهواء،وتحمل النساء أوانى الطعام المعد خصيصاً لهذا اليوم وتقوم سيدة من الاقارب بغمس يد الرضيع فى ماء النيل ثم تغسل وجهه وسائر جسده وهذه عادة فرعونية قديمة توارثها النوبيون،وتغسل ام المولود وجهها وتشرب من ماء النيل ،ويلقى فى النيل بعض ما يحمله النساء من الطعام أعتقاداً بأن هناك أرواح طيبة وعالم غير منظور يسكن ويعيش فى النيل وإلقاء الطعام فى النيل له دلالة على الخوف الكامن فى نفوس النوبيين من العالم غير المنظور والرغبة فى استرضائه واشراكه فى فرحتهم بالمولودويفترش الجميع شاطئ النيل لتناول الطعام المبارك ويعود الجميع الى بيت الأم ويشربون شراب البلح المغلى فى الماء ويهرس بتحريكه بعصا من الجريد على شكل صليب يسميها المتوكية “نبديه” أما الفاديكات فيطلقون عليها “نبر”ومن الموروثات أن السبوع لا يقام الا للذكوروفى اليوم السابع للمولود تذبح على باب حجرته ذبيحة او أكثر ،ويوضع الرضيع على طبق كبير من الخوص مفروش ببعض القمح وفوقه وسادة لينة يرقد عليها الرضيع وبجواره الكحل والمكحلة وبعض البلح والفشار ، واحتفال السبوع فى النوبة القديمة يأخذ شكل دينى فتقام حلقات الذكر وتنشد المدائح النبوية ويتم فى يوم السبوع اختيار اسم المولود،ويبدأ الجميع فى تناول طعام الوليمة ويطوف عليهم الصبية بأباريق الماء والأوانى لغسل أيديهم ،ثم يطوف آخرون بفنجان به رائحة الصندل السائل ويغمس الحاضرون اصابعهم ويمسحون على وجوههم وثيابهم ويبدأون فى الأنصراف بعد تقديم واجب النقوط للأب وجرت العاده ان توضع مبالغ النقوط فى صينية بها بعض ماء النيل .
زيارة المقربين
وبعد أربعين يوماً تبدأ الأم ورضيعها بزيارة المقربين حتى لا يقال انها تمنع الرضيع عن الناس خوفا من الحسد فيستقبلونها بطقوس معينة بأن يرشواعلى المولود بعض الذرة وتربط الأم بعض الذرة فى منديل على رأس المولود لجلب الخيرحيث ان الغلة دائماً رمز للخير والرزق الواسع
.وختان المولود فى النوبة القديمة كان يتم بالأساليب البدائية عن طريق حلاق القرية وجرت العادة أن يتم ختان الذكور فى سن كبيرة الى حد ما وسط مظاهر احتفالية كبيرة،اما الاناث فكان الختان يتم فى أول أيام الولادة ويقطع البظر كاملاً وفى سرية دون اى مظاهر احتفالية .وتربط الزوائد فى قطعة من القماش الأبيض على ذراع الطفل ثم ترمى فى النيل بعد الشفاء.
قبل التهجير
قبل التهجير لم يكن فى النوبة القديمة اى اعتناء او أهتمام بصحة الأهالى ولم تتوفر فى قراهم المستشفيات أو أى مواد أولية بسيطة للعلاج ،وتعود النوبيون على علاج انفسهم بأيديهم مستخدمين الأعشاب والنباتات المتوفرة فى بيئتهم ،وكانت الأدوية عبارة عن غلى بعض النباتات وشربها أو فصد الدماء من القدم والسيقان والوجه فمثلاً مريض الكلى يشرب حلف البرومريض الدوسنتاريا كان يأكل اللوبيا المسلوقة ويشرب ماء سلقها وسفوف الحلبة على الريق ،
ومريض السكر يعالج بسفوف الترمس الجاف المطحون ويعالج التلبك المعوى بفصد ما بين اصابع القدمين بموسى مطهر وشرب القرنفل المغلى أما الصداع كان يعالج بفصد الدم من أعلى الخد بموسى مطهر حاد،وأستخدم القرد “حب السنط”فى علاج أمراض العظام وآلام الظهر ويحضر كلبخة مع الحناء والملح وقال النوبيون القدماء”من كان فى بيته قرد ما أصابه مرض”،وأطلقوا على القرد “بنسلين النوبة”.وعند أشتداد المرض وأستفحاله لا تنفع هذه الوسائل البدائية فى الشفاء .وعند وفاة الانسان النوبى يحمل على”العنجريب”الذى كان ينام عليه وهو السريرالمصنوع من الخوص وجريد النخيل ويحمله أربعة رجال الى المقابروبعد الدفن يوضع ناحية رأسه وعاء به بعض الماءأعتقاداً أن روح المتوفى تشرب منه وتذهب النساء من اقارب الميت مغرب كل يوم لملئ الوعاء بالماء وتذهب زوجة المتوفى بالطعام يومياً للمقابر لمدة أربعين يوماً أعتقاد بأن روحه تجوع
ويستمر العزاء ثلاثة ايام يتحمل اهل القرية اعداد الطعام والشراب وأخراج بعض المفروشات للمعزين لمدة يومين فقط وفى اليوم الثالث يقوم صاحب العزاء بذبح ذبيحة أو أكثر ويولم أهل القرية ويكرر ذلك عند حلول الأربعين ،وساحة العزاء لا يقرأ فيها القران ويجلس المعزون يتحدثون ويضربون فى شتى الموضوعات وقد يذكروا محاسن الميت ،ومن الموروثات ان الصبية يقومون بجمع أعداد كبيرة من الحصى توزع على الجميع فى اليوم الثالث للعزاءويتلوالمعزون عبارة لا الله الا الله على كل حصاة حتى يتجمع لديهم تسع وتسعون حصاة وتجمع الحصاة من المعزيين وتوضع على قبر المييت.
تحزيم الوسط
أما أهل المتوفى من النساء فيعبرن عن حزنهن بتحزيم الوسط منهن كل بشالها ويهلن التراب على رؤسهن ويقفزن لأعلى فى عويل وبكاء ويقلن “هيلو هيلو”وهى عبارة تعنى الحسرة والندامة على الفقيد عند النساء المتوكيات أما نساء الفاديكات فيرددن عبارة “واى هاوو”وهن يبكين ويندبن الفقيد ويتعانقن مع النساء القادمات للعزاء فى مشهد يزيد من حرارة الحزن .ومن الموروثات القديمة أن المرأة النوبية التى توفى زوجها لا تنام على العنجريب”السرير”طوال فترة العزاء وتفترش الارض ولا يجوز ان تجلس على كرسى او كنب او ماشابه بل يكون جلوسها دائماً على الارض تعبيراً عن الحزن ، وتؤجل جميع المناسبات السارة والافراح داخل حدود قبيلة الميت لمدة سنة،ولا يجوز لأهل الميت من النساء تقديم التهانى فى المناسبات السارة للقبائل الأخرى طوال أربعين يوماً بينما يجوز ذلك للرجال
ولا تنقطع صلة أهالى النوبة بموتاهم بانتهاء طقوس العزاء بل يستمر ذكراهم فى كل المناسبات الدينية وخاصة الأعياد،وقبل صلاة العيد يذهب اهل الميت من النساء والرجال للمقابر وتنثر السيدات الحبوب فوق القبر حتى تأكل منه الأرواح الطيبة والطيور وفى وقت الصلاة يرجع النساء ويبقى الرجال لصلاة العيد والتهليل والتكبير.